الإعلان و الاشهار، من الترويج للسلع للترويج للافكار

MOSTAFA CHAAB23 يونيو 2021237 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
الإعلان و الاشهار، من الترويج للسلع للترويج للافكار

 

 

اخبار الشعب / نزهة الإدريسي :

قل للمليحة في الخمار الأسود .. ماذا فعلت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه.. حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه.. لا تقتليه بحق دين محمد

لقد كانت هذه الابيات وقصة المليحة صاحبة الخمار الاسود هي اول مبادرة اشهارية في تاريخ العرب متكاملة وتستجيب لبنود الدعاية والاشهار كما وضعها خبراء هذا المجال في العصر الحديث، فالاعلان او الاشهار هو عملية الترويج لسلعة او فكرة عبر وسائل مختلفة منها الصحف والتلفاز والمذياع والملصقات بالشوارع وغيرها من الوسائل التي يتعامل معها الجمهور، كما الكلمة والاسلوب الشيق الذي يصل بالمتلقي لدرجة الافتتان والاقتناع، وبالتالي التعامل الايجابي مع السلعة او الفكرة المعروضة، وهذه العملية لا تخلوا من المبالغة والخداع

قبل ظهور هذه الوسائل الحديثة كانت عملية الاشهار تتم في الاماكن العامة التي يتجمهر فيها الناس بشكل يومي، في دور العبادة كالمساجد وفي الاسواق، وعبر المنادي أو المنشد والراوي او الخطيب وكل هؤلاء لابد ان تتوفر فيهم شروط معينة كحسن الصوت وجهوريته أو ظرف الراوي وبلاغة الخطيب وغيرها من المواهب والامكانيات التي تجذب المتلقي وتؤثر به

تعتبر قصة المليحة ذات الخمار الاسود والزاهد المتعبد من ادق واروع ما صيغ في عالم الدعاية والاشهار، فالحكاية لم تكن حقيقية الا من مفبركها او مبدعها، وهو الشاعر مسكين الدرامي، شاعر من القرن الثاني الهجري اشتهر بشعره في الغزل وقيل ان اسمه ربيعة بن عامر، انقطع للعبادة والزهد وترك الشعر والتسكع في الاسواق، التقى ذات يوم صديقا له كان يعمل في التجارة يعاني من مشاكل في تسويق سلعته التي كانت عبارة عن اخمره عراقية اقبلت النسوة على كل الوانها الا الاسود منها مما اثر كثيرا على ارباحه، فصاغ له الشاعر الابيات السابقة وطلب منه ان يوكلها لمن يحسن الغناء كي يصدح بها في اسواق المدينة، فذاع الخبر وتوهمت النسوة ان شاعرنا قد رجع عن زهده بسبب افتتانه بمليحة كانت ترتدي خمارا اسود فتهافتت النسوة على الاخمره السوداء عسى ان تضفي عليهن من الجمال والحسن ما يفتن الناظرين ويجلب لهن الحظ والسعادة ,

هذا الغرض وهذه النتيجة هي ما تود وكالات الاشهار بلوغه مع المتلقي، وهي تروج لبضائعها كي يزيد عليها الطلب، فلا نكاد نجد اعلانا يقتصر على عرض السلعة بما تحتويه من مكونات وطريقة استعمالها، بل ان خبراء الاعلان والاشهار يبدعون بوضع واقتراح الظروف المناسبة لاستعمالها، ويبالغون في الترويج لمنافعها، وهم يروجون في نفس الوقت لافكار وثقافات مرتبطة بسلعتهم وبضاعتهم، فمن يدخن سيجارة من نوع ” ما ” هو انسان يشعر بالثقة اكثر بنفسه، فهي سيجارة رجل الاعمال الناجح او الرجل صاحب المزاج العالي او الرجل الانيق وصاحب الذوق الرفيع، ومن تستعمل صابون “كذا” او مسحوق ” ما ” فانها تعرف من الاستقرار العائلي والسعادة الزوجية اكثر من غيرها، وهكذا فكل سلعة هي مصحوبة بعدد من الافكار والثقافات تؤثر بشكل قوي على السلوكيات .

الاعلان إذن والاشهار يساهم كثيرا في تشكيل الذوق العام والراي العام والتاثير على الامزجة، والسلوكيات وإخضاع الجماهير لاتجاه فكري معين .

في البداية كانت عملية الاشهار تعنى اكثر من الترويج للسلع والرفع من مستوى الاستهلاك، اما الان فقد اصبح هاجسها الاول الترويج للافكار والسياسات، فالسلع نفسها التي كانت الهدف اصبحت وسيلة تستخدم للترويج للمصالح السياسية حتى اصبح الاقتصاد جزء من السياسة او كلاهما متداخلان ولا فصل بينهما، ففي المؤتمرات والمنتديات الاقتصادية الكبرى تحدد اهم السياسات وتناقش اهم المعضلات السياسية التي تحدد مصير الكثير من الشعوب كالقضية الفلسطينية التي شهدنا لها في السنة الماضية ذلك العرض الفاضح والمساومة الرخيصة بين مؤتمري قطر الاقتصادي ونظيره الكويتي وقبلهما مزاد شرم الشيخ المنبثق عن سوق دافوس للتجارة السياسية الكبرى

في عشرينيات هذا القرن وبعد اكتمال المنظومة الاعلانية بادواتها الفتاكة من سينما ومذياع و ملصقات اشهارية وتحولها الى اداة قادرة على اقناع واخضاع المتلقي، أمرت السيدة اكيلر وهي موظفة سامية في الحكومة الفيديرالية الامريكية من رجال الاعمال الامريكيين وارباب وكالات الاشهار ربط مصالحهم وبضائعهم بالقيم والمؤسسات الامريكية والتناغم بين المصالح المالية والتجارية من جهة وبين المصالح القومية للبلاد من جهة اخرى، فالظرف كان يشهد تدفق اليد العاملة والمهاجرين الجدد للاراضي الامريكية من جنسيات واجناس متعددة بهدف البحث عن فرص عمل وتكوين ثروات، لذا فالمصلحة تقتضي ادماج هؤلاء الوافدين وجعلهم يتشبعون بثقافة البلاد لتكوين مجتمع متجانس تسيطر عليه المفاهيم والعادات والسلوكيات الامريكية

الا ان هذا الامر لم يعد يقتصر على الداخل الامريكي، بل اصبح الاشهار والاعلان يمد نفوذه خارج البلاد، فالترويج للبضائع والسلع، صار يعني التروج للثقافة الامريكية وللنموذج الراسمالي، مما مهد لغزوات استعمارية واسعة النطاق ورغم ان الامريكيين كانوا احسن وابرع من وظف الاشهار والاعلان لمصالحهم السياسية، الا ا ن اول من وضع اسس النوع من الاعلان والاشهار هو “جوزيف گوبلز” أحد أقطاب النظام النازي الذي يعتبر أول من جعل من الدعاية السياسية علم وفن في آن واحد. فقد سخر لها عددا من السينمائيين والصحفيين والمثقفين ومختصين في علوم الاتصال والتواصل وآخرون في علم نفس الجماهير (La psychologie des foules) . كل ذلك لتطويع الشعب واخضاعه للسياسة التي تختارها حكومته، وقد كان يردد في هذا الاطار: “ليس هناك أمر أسهل من قيادة الشعب إلى حيث نريد، يكفيني أن أنظم حملة إشهارية تبهره وسوف يسقط في الفخ !!! ”

من هنا تتضح خطورة الاعلان والاشهار في المجال السياسي، فقد تراجعت معه الافكار والقيم والمبادئ والاخلاق لصالح قوة الالوان والشعارات الجذابة وما يرصد لها من امكانيات واعتمادات مالية هائلة، لذلك اضحت السلطة بيد الاكثر مالا والاكثر دهاء، دهالقة المكر والخداع، مَن لهم القدرة على قيادة شعوبا باكملها نحو الفخاخ المنصوبة بدل قيادتهم للحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتقدم والرقي ..

نزهة الإدريسي
المملكة المغربية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق