“أوروبا” فيليب شِفْنَر: مخيالٌ سينمائي يُعاند الامّحاء

MOSTAFA CHAAB16 أبريل 2022115 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
“أوروبا” فيليب شِفْنَر: مخيالٌ سينمائي يُعاند الامّحاء

 

اخبار الشعب /قيس قاسم:

يُربك “أوروبا” (2022)، مُشاهدَه من المَشهد الافتتاحي، الذي يظهر فيه مخرجه فيليب شِفْنَر (1966)، واقفاً بجوار الممثلة ريم إيبرير، يسألها عن دورها في الفيلم. تجيبه ببرود أنّها تريد التخلّص منه، والعودة إلى حياتها الطبيعية. تثبيت مشهد واقعيّ خارج سياق تصوير مشهد تَخيّلي، في فيلم روائي: ما ضرورته؟ غرائبية ما يتبع المشهد تبهت السؤال، ومع الوقت، يغدو صدىً لأسئلة أخرى، تُثير دهشة أكبر، تتوالى وتشتدّ مع مسار حكاية زُهرة (إيبرير نفسها)، الشابة الجزائرية التي جاءت إلى فرنسا للإقامة فيها، لكنّها غابت فجأة عن الوجود. أضحت فراغاً خفياً عن الأنظار، لا تراها عيون محدّثيها، ولا يشعر المارّون قربها بوجودها.

أوروبا، القارة التي تُغوي الناس للهجرة إليها أملاً في خلاصٍ، يختصره النصّ السينمائي الألماني الفرنسي باسم موقف باص في المدينة الفرنسية الصغيرة “شاتِلْرو”، تنزل فيه زهرة كلّما ذهبت إلى طبيبها. المدينة هادئة ونظيفة. سكّانها لطفاء. الخبر الذي تسمعه من طبيبها يُفرحها. لم تعد بحاجة إلى عمليات أخرى لتصليح اعوجاج عمودها الفقري. الخبر يشيع تفاؤل جَدّتها (زليخة إيبرير، الجدة الحقيقية لريم)، المُقيمة معها، بإكمال معاملة هجرتها، والتحاق زوجها بها، الذي لا يزال مُقيماً في الطرف الآخر من المتوسّط، لتنتهي فترة سادها القلق والخوف من فشل العلاج، ومعه احتمالات زوال أسباب وجودها في البلد الغريب.

الاسم الحقيقي للجدة، وأسماء أفراد عائلتها المشاركين في الفيلم، تُثير غرابة، وتُحفّز على طرح سؤال عن مصدرها، طالما أنّها في صلب النصّ الروائي (السيناريو لميرل كروغر، بمشاركة شِفْنَر). لسؤال المخرج لريم، في مفتتح الفيلم، علاقة بالأمر. زُهرة المُتخيّلة هي إيبرير الحقيقية، التي تعرّف إليها السيناريست سابقاً، والتقى زوجها في الجزائر. عرف منه الأسباب القاهِرة التي تدفع الناس إلى الهجرة، والمغامرة بأرواحهم من أجل مستقبل أفضل، ربما يجدونه في أوروبا القريبة. الحقائق دفعته إلى كتابة قصّة طويلة عنها، صنع شِفْنَر منها فيلماً وثائقياً، “حادثة” (2016). وثائقي عن مغامرة الهجرة، مستوحى من تجربة ريم إيبرير الجزائرية وزوجها.

شدّة التوافق والتطابق بين التجربة الشخصية والتمثيل، يقابلهما انفلاتٌ وتباعد سردي روائي، يحاذي ـ لغرائبيّته ـ تخوم الفانتازيا. بهما، ألغى “أوروبا” حدود الواقع وجغرافيّاته، وبدلاً منه يُقيم المخيال السينمائي عالماً آخر، موازياً ومختلفاً عن ذاك الذي تعيش فيه زهرة، وتُعامَل فيه كرقمٍ قابل للشطب. لمعاندته، يتحالف المخرج والممثلون، إلى التصوير الرائع لفولكر ساتيل، والسيناريو مُحكم الكتابة، والمقتصد بالحوارات، على خلق بديل افتراضي له. ينطلقون معاً لتشييده من نقطة الإلغاء، المتأتية من قرار لدائرة الهجرة الفرنسية يقضي برفض طلب لجوئها، وبالتالي عليها مغادرة البلد. ورقة كُتبت فيها أسطر قليلة، حطّمت آمال زوجها في الوصول إليها، وأحالت وجودها إلى عدم. كلّ طرف رسمي يؤكّد على نهاية وجودها في فرنسا، طالما أنّ الورقة وصلتها، وأبلغتها بخاتمة رحلتها.

ترفض زُهرة الرحيل، وتقرّر الاختفاء بموافقة نصّ سينمائي، تسلّح بواقعية قابلة لارتداء ثوب الفانتازيا. بعد القرار الرسمي، صارت زُهرة فراغاً في نظر الناس والسلطات. بشطبةِ قلمٍ، مُحيَت من الوجود. المتعاملون معها صاروا يحكون مع فراغ، من دون أنْ يشعروا بذلك.

المَشاهد المصوّرة لحالة التغييب مُدهشة في إتقانها وقوّة تأثيرها. تقول متونها: القرارات الرسمية تقدر على محو الوجود الجسمانيّ لزُهرة، لكنّها تعجز عن فعل الشيء نفسه مع خيالها، وخيال السينما التي تمادت في ترسيخ حضورها الخفيّ. منحها السيناريو حريةً في تصوّر نفسها أنّها تعيش علاقة جديدة مع شخص مُغيَّب مثلها، والمكوث في الأمكنة التي تحبّها بصفة شبح، يستحيل الإمساك به وترحيله. الجزائريون المحيطون بها يخافون هربها من السلطات، ومن فضيحة رفضها العودة إلى بلدها الذي هجرته. أما هي، فبشبحيّتها يمكنها اختيار المكان الذي تختاره مأوى مناسباً لها. كلّ بقعة تدوس فوقها، من دون أنْ تترك أثراً يدلّ عليها، تعرفها مسبقاً، ولطالما حلمت بالبقاء فيها أثناء وجودها الحقيقي. مستقبلها المُتخيّل صار بمستطاعها تصوّره من خلال حياة الآخرين: أمّ تدفع عربة طفلها في حدائق مزهرة، تماماً كما أرادت هي أنْ تكون.

وجدت زُهرة في طاقية الإخفاء السينمائية مُرادها. قرّرت تصوّر الدنيا التي تريد تمضية بقية حياتها فيها، من دون خوف من سلطة أوروبية تلفظها، أو عيشٍ بائس في الأوطان.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق