الروائي المغربي محمد خير الدين أو “الطائر الأزرق”

MOSTAFA CHAAB14 أبريل 2022194 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
الروائي المغربي محمد خير الدين أو “الطائر الأزرق”

 

اخبار الشعب/حسونة المصباحي:

عاش محمد خير الدين حياته كعاصفة من لهب، ليحترق بها في النهاية وهو في السادسة والخمسين من عمره (توفي سنة 1995م)، وهو المولود سنة (1941م) ب(تفراوت)، المدينة المنتصبة وسط صخور وردية وزرقاء في منطقة سوس. تمكن مبكرا من إتقان اللغة الفرنسية، ليكون من أفضل كتابها بشهادة جان بول سارتر، وأندريه مالرو، وصمويل بيكيت.. لغة بركانية، هوجاء، جارفة وهادرة مثل السيول، وصاخبة مثل الأمواج الغاضبة.. لغة كأنها طلقات نارية على اللغة المتكلسة، والمفتعلة، والكاذبة، والمزيفة، بها (أعلن الحرب على الكائنات والأشياء التي تشوه الإنسان، والعالم، وتشوهه هو نفسه).

بدأ محمد خير الدين مسيرته بكتابة الشعر، ناشرا قصائده في مجلة (أنفاس) التي كانت صوت الطليعة المغربية في الستينيات من القرن الماضي. ومن وحي الزلزال الذي ضرب مدينة أكادير، كتب رواية سريالية بعنوان (أكادير). وفي عام (1965م)، هاجر إلى فرنسا، ولم يعد إلى المغرب إلا عام (1979م).

أتذكر أني كنت جالسا عشية يوم الثلاثاء (30 أغسطس – آب 1987م)، في مقهى (باليما) المواجه للبرلمان المغربي، لما همس لي صديقي حاتم البطيوي قائلا: (ها محمد خير الدين الذي تسأل عنه كلما جئت إلى المغرب). نظرت حولي فلم أر غير زبائن يراقبون مثلي حركة المارة في الشارع العريض الذي ينزل بهدوء باتجاه المدينة العتيقة. صوب حاتم سبابته باتجاه رجل قصير كان يتحرك ويتكلم بعصبية، وكأنه في شجار مع الجميع، وقال لي: (ذاك محمد خير الدين). وفي الحين قفزت من الكرسي متوجها نحوه. قدمت له نفسي فابتسم، وقال: (هؤلاء التفهاء يضايقونني دائما، ولست أدري أي مكان يمكن أن أجد فيه راحتي وهدوئي).. ثم أضاف قائلا: (لقد جئت إلى الرباط لأنها هادئة وصغيرة.. أما الدارالبيضاء، فقد أصبحت جحيما بالنسبة إلي.. ضجيج وصخب في الليل، وفي النهار.. والناس لا يهتمون إلا بجمع المال، وبأي طريقة.. بودي أن أذهب إلى قرية بعيدة في جنوبي المغرب لأستريح وأكتب، وأقرأ ما يعجبني من الكتب.. ولست أدري ما الذي يمنعني من ذلك.. الآن أنا أقيم في فندق “رويال”.. أتعرفه؟ هو الفندق المفضل لجان جنيه، وهو واحد من بين عدد قليل من الكتاب الفرنسيين الذين أحبهم.. وقد بلغني أن صديقك محمد شكري يحب أن يقيم فيه أيضا كلما زار الرباط.. وأنا أحببت سيرته “الخبز الحافي”، لكن عليه أن يغامر أكثر في الكتابة، وأن يقطع مع أسلوبه القديم).

بعد جولة في قلب الرباط، جلسنا في بيت صديق عراقي مقيم في المغرب.. قال لي محمد خير الدين: (بدأت حياتي موظفا ثم استقلت من الوظيفة غير آسف، وهاجرت إلى فرنسا.. في كتبي سربت بعض المعلومات المتعلقة بطفولتي، والبيئة التي فيها نشأت.. كما تحدثت عن أوضاع اجتماعية وأخرى. وما أرغب في تأكيده، هو أن العناصر والذكريات المتعلقة بحياتي الشخصية، يمكن أن توجد في ما أبدعته في الشعر، كما في النثر.. وحتى لو أراد الكاتب أن يتخفى، فإنه يفشل في مسعاه.. لكن على الكاتب ألا يكثر من الحديث عن نفسه، لكيلا يتحول إلى مجرد مهرج ثرثار).

ويعتقد محمد خير الدين أن الكتابة فرضت عليه نفسها.. وكان مصدرها نوعا من الابتهاج الغريب والبدائي. وقد بدأ بكتابة الشعر مستمعا إلى أغاني البربر، وإلى حكايات الجدات والخالات والعمات اللاتي كن يتقن ذلك الفن الشفوي البديع. ومنذ البداية، فتن بذلك العالم الساحر، وبتلك التقاليد الأصيلة قبل أن تتحول إلى (فلكلور) رخيص ومبتذل يعرض على السياح، وعلى الفضوليين القادمين من مدن الانهيارات العصبية.. ولأنه لم يكن متمكنا من العربية بما يكفي، فإنه اختار الكتابة بالفرنسية التي أتقنها مبكرا حتى إنه بان قادرا على أن يتعامل مع كل كلمة تعاملا دقيقا، حريصا على أن يضعها في مكانها المناسب، مانحا إياها الموسيقا الخاصة بها. توقف محمد خير الدين عن الكلام، ثم أضاف:(بصراحة يؤلمني جدا ألا أكون قادرا على الكتابة باللغة العربية بالطريقة التي أبتغيها مثلما هو حالي مع لغة موليير.. وأصدقائي هنا في المغرب، يعرفون جيدا أنني أدافع عن اللغة العربية كلما سمحت لي الفرصة بذلك، وأحيانا أدافع عنها بأكثر حماسا من الذين يكتبون بها).

ومتحدثا عن هجرته، قال محمد خير الدين إنه غادر المغرب، وكانت تجربة الغربة ثرية بالنسبة إليه، إذ إنها لم تمكنه فقط من العثور على أسس لتفكير عميق، وإنما أيضا على نوع من الحنين القادر على أن يتحول إلى مرآة تعكس واقعه البعيد. وفي الوطن، كما في الغربة، انبثقت أعماله التي حظيت بإعجاب كبار النقاد، وأيضا بإعجاب سارتر، وسيمون دو بوفوار، وأندريه مالرو، وصموئيل بيكيت، من قلبه، ومن دمه الأسود، ومن كيانه الأصلي.

سألته:(هل أحببت حياتك في باريس؟). أزعجه السؤال فرد علي قائلا:(ماذا يعني هذا الكلام: أحببت حياتك في باريس؟.. كل ما أستطيع قوله هو أنني لم أندم على أي يوم من أيام حياتي.. وفي قصيدة لي، تحدثت عن “الحنين إلى المستقبل”.. لذلك أنا مشدود دوما إلى الحياة، ولا أعرف لليأس والإحباط سبيلا).
وعن صديقه الرئيس ليبولد سيدار سنغور، قال محمد خير الدين:(سنغور بالنسبة إلي واحد من أهم زعماء العالم الثالث، وقد استقبلني في مكتبه الخاص في دكار عام (1977م) وأثناء الحوار معه، قال لي: لقد كرهت السلطة.. وأرغب في تسليمها إلى من أثق فيه. وفعلا سلمها إلى عبدو ضيوف، الذي سيخونه فيما بعد).

وعن الطاهر بن جلون الذي كان قد فاز آنذاك بجائزة (غونكور) المرموقة، قال محمد خير الدين:(أنا الذي عرفت بالطاهر بنجلون لما قدم إلى باريس سنة 1972م).
قال لي محمد خير الدين:( أنا أحب وحدتي، فهي رفيقتي التي لا تخونني أبدا.. لكن لا بد أن أختلط بالناس أيضا لأنهم مصدر ما أكتب.. وأنا لا أملك سوى هذه الثياب التي على جسدي، وهذا الغضب الذي يسكنني مذ بعثت إلى الوجود).

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

التعليقات تعليق واحد
اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
  • نزهة الإدريسي 14 أبريل 2022 - 12:38

    سألته:(هل أحببت حياتك في باريس؟). أزعجه السؤال فرد علي قائلا:(ماذا يعني هذا الكلام: أحببت حياتك في باريس؟.. كل ما أستطيع قوله هو أنني لم أندم على أي يوم من أيام حياتي.. وفي قصيدة لي، تحدثت عن “الحنين إلى المستقبل”.. لذلك أنا مشدود دوما إلى الحياة، ولا أعرف لليأس والإحباط سبيلا).

    جواب حكيم.. !!!

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق