الكاتبة براءة الأيوبي تكتب عن رواية “حراس الحزن”

MOSTAFA CHAAB20 أبريل 2022251 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
الكاتبة براءة الأيوبي تكتب عن رواية “حراس الحزن”

 

اخبار الشعب/براءة الأيوبي / كاتبة لبنانية:

قراءة في رواية “حرّاس الحزن”، لأستاذي د. أمير تاج السرّ.
بمجرّد أن يقع ناظرك على رواية “حرّاس الحزن”ا، ستعرف أنك أمام تجربةً روائيةً ستطرح أحداثاً تلامس روحكَ وتخصّكَ أنتَ بحاضركَ وواقعكَ وأحزانك.. وستدفعكَ حتماً للتساؤل عن أيّ حزنٍ سيعترضك بين الصفحات وتخوض غماره، وعن هؤلاء الذين سيقومون بدورٍ غرائبيٍّ في حراسة هذه المشاعر البائسة..!!
في البداية، غلاف الرواية سيستدرج حزنك بمشهد الغروب الطاغي والمترائي خلف ظلال شخصٍ في حالة تأملٍ وانتظار طويل. ربّما هو ذاك الانتظار الذي نعيشه في كل يومٍ ألف مرّةٍ آملين بتغييرٍ قد يطرأ أو معجزةٍ قد تتحقق أو بلدٍ قد ينتفض من كبوته ويصحو من غفوةٍ طال أمدُها حتى نسج العنكبوت غَزلَه في القلوب وترك بصماته في صورة فقرٍ وحرمانٍ وتعاسةٍ تزدان بها الأروقة والطرقات..
في هذه الرواية غاب الإهداء، لتحلّ مكانه عبارةٌ أوردها الكاتب لتشكّلَ جسر عبورٍ نحو ما ينتظرنا بين دفتَيّ الكتاب من أحزانٍ ستقتحم هدأتنا دون أن نَجهد في البحث عنها.. “في هذا النص لا تبحث عن الحزن. دع الحزن يبحث عنك”… هي عبارةٌ تكفي لندرك أن الرواية لا تتوجّه إلى شخصٍ معيّنٍ أو فئةٍ محدّدةٍ أو شريحةٍ بعينها… بل هي تعنينا كلّنا دون استثناء. نحن الذين نتشابه في أحوالنا وظروف حياتنا وبؤسنا المترامي خلف أسوار واقعنا الهشّ وهمومنا التي غدت مرضاً مستعصياً حتى على الزمن..
“حرّاس الحزن” التي تقع في 193 صفحة، ستحملكَ مع الحزن في رحلةٍ أنيقةٍ حيناً وعشوائيّةٍ حيناً آخر، لتصل في نهايتها إلى ضفّةٍ غير آمنة تكتشف من خلالها أننا نحن من نشكّل حراساً لأحزاننا بل ومرّات كثيرة نبتدعها من رحم الفراغ… هي رسالةٌ واضحة تتجلّى في عبارةٍ وردت في الصفحة 167 على لسان بطل الرواية “علي صلاح” وتشكّل اختصاراً لما أراد د. أمير أن يخبرنا به..”تلك الأحزان التي أعتبرها أوكسجيناً حيوياً لا بدّ من التفاعل به ومعه”…
مسيرةُ سنخوضها معاً بين بضع صفحات من الرواية، وسندرك من خلالها كيف أننا ، كبطل الرواية تماماً، نستنبط أتراحنا ونبحث عنها حتى في أكثر المواقف التي لا تستدعي أيّ مشاعر ايجابية أو سلبية..
بدايةً وفي موقف اعتياديٍّ قد نمرّ به يومياً، نرى بطل الرواية “علي صلاح” يتفرّس في بضاعةٍ قديمةٍ معروضةٍ للبيع وتلفت انتباهه حقيبة نسائية فاخرة من جلد التمساح.. حدثٌ طبيعيّ نتج عنه تفكيرٌ بائسٌ غير اعتياديّ اشتمّ على أثره البطل رائحةَ الحزن في الحقيبة بدل أن تثير فيه شعوراً بالإعجاب أو الامتعاض أو حتى اللامبالاة.. “شممتُ فيها رائحة حزنٍ قديمٍ رغم يخصّ صاحبتها وربّما لا يخصّ أيّ أحد ويخصني وحدي”..
وفي موقفٍ آخر للبطل “علي صلاح” أثناء لقائه بمديره في العمل نراه متردداً في الإجابة وخائفاً من أيّ كلامٍ قد ينطق به أو أيّ فكرةٍ قد تراود رأسه.. حتى في مواضيع العمل الروتينية البسيطة والتي قد تفرض تساؤلات وتستدعي إجابات من المسؤولين.. كلّ ذلك بسبب أفكارٍ بائسة تراوده وتترك آثارها على قراراته وسلوكياته في شكل ترددٍ ملحوظ.. يخشى “علي صلاح” أثناء حديثه مع المدير من تأثير كلامه على موقعه في العمل فنراه منكمشاً في علاقاته الرسمية وغير قادر على التفاعل والتواصل كأيّ فردٍ طبيعيّ.. “وخفتُ أن يختلط الاجتماعي بالرسميّ في ذهنه (المدير)..
وبطلنا “علي صلاح” يشبهنا جميعاً في قابليته الدائمة للحزن والقلق. فها هو يقف في حالة توترٍ كبير بمجرّد علمه بوجود شخصين يسألان عنه. .. “توتّرتُ، وعندي قابلية للتوتر كلما طرأ تعديل ولو طفيفاً على مسرح حياتي”… وفي مكانٍ آخر في الحقيقة لم أسترح لذلك التطور العشوائي في قضية خاصّة جداً”.. لماذا لم يستبشر “علي صلاح” بقادمٍ قد يحمل له كل الخير وتوسّم بؤساً ينتظره خلف زيارة الأغراب..!! هكذا كلّنا، بِتنا نخشى التغيير ونعيش في شرنقةٍ نظن بها حمايةً لنا من أيّ شرورٍ أو أحزان.. نخشى التجديد ونتوقّع الأسوأ في كلّ ما قد يأتينا ويكسر حياةً نمطيةً نعيشها..!
إنه الشقاء يرتديه بطل الرواية.. وهو البؤس النابع من أعماقه قبل أن يكون انعكاساً للواقع.. مسكين “علي صلاح” توقّعه الدائم للأسوأ يجعله في ذروة الحزن والخوف ويعيش في دائرة تشبه المتاهة.. خوف يولد خوفاً وحزنُ يولد أحزاناً.. نراه في الرواية مدعواً بطريقة اعتياديةٍ إلى قسم الشرطة، وهنا تبدأ الوساوس بنَهش تفكيره فيصببّ جام تشاؤمه على المجتمع بجميع شرائحه، ويقوم بافتراض الأسوأ الذي سيحلّ عليه بسبب المجتمع الذي يفيض شرّاً برأيه ولا يجلب له سوى المتاعب من وجهة نظره.. “فالمجتمع شرير في بذر الأخطاء..”..
في الرواية يتجلّى البطل بقلبٍ حانٍ تلفته المآسي ويعتصر قلبه ألماً على الأطفال المشردين والمحرومين من كل مباهج الحياة.. ولكن!!!
حتى في حنانه نراه موشوماً بحزنٍ كبيرٍ يدفعه إلى تناسي هموم الآخرين وغّضّ الطرف عن أوجاع الصغار المستضعفين، انطلاقاً من نظريته البائسة والتي تقول بأنه لا جدوى من العطف على من نصادف عَوَزهم، فثمّة تائهون كثر ومستضعفون لن يعثروا على من يلتف إلى حالهم.. ” قررتُ فجأةً أن أتوقّف عن الحنوّ على الأطفال الضائعين.. فسيأتي ضائعون آخرون من أحزان أخرى ولن يتوقّف الشجن أبداً”..
نظريةٌ غريبةٌ بل مريبةٌ لو طُبقَت لسادت الأنانية في هذا العالم الذي يفيض آلاماً.. في موقف مماثل، كان يفترض بالبطل أن يكون سعيداً لمحاولته وربما نجاحه في إضفاء ابتسامةٍ على وجه فقيرٍ أو تائهٍ أو مستضعف، لكن الحزن صفعه وحمَله على تناسي أيّ محاولةٍ لنجدة ضعيف.
وفي الرواية نرى كيف أن الأسى يتتبع خطوات البطل “علي صلاح”.. أو على الأرجح كيف أن البطل يستنبط المآسي من مشاهد ومواقف وشخصيات تعبر أمامه أو يحتكّ بها لحاجةٍ أو عن طريق الصدفة. نراه يخرج مثلاً من إدارته حيث يعمل محمّلاً بالأسى الكبير لمجرّد رؤية حارس مكتب المدير يشرب سيجاراً وينوب عن المدير في تسيير بعض الأعمال.. مشهدٌ اعتياديّ يصبح مع “علي صلاح” سبباً لاستدرار الأسى.. “غادرتُ وثمّة أسى كبير يتملّكني.. فقد أرهقني منظر السيجار الخشبيّ والرجل المنتشي بحلم..”
وأثناء راحته واستلقائه نرى “علي صلاح” مشغولاً بأفكارٍ تستدعي أرقه وتتركه في حالة شتاتٍ وبؤسٍ نفسيّ.. “كنت مسترخياً في صالتي الفقيرة أفكر في مواضيع مهمة وأخرى سطحية من بينها ما يمكن أن يكون قد حدث لاسماعيل في تلك الغيبة… ما يمكن أن يكون قد حدث لأمّ نجم الدين بعد الموت الفجائيّ لولدها.. ما يمكن أن يحدث للكرة الأرضية كلها لو تطاول عليها وباء نشط وهزها..”حتى عند تعيينه مديراً في مركز عمله، لم يستشعر أدنى قدرٍ من السعادة بل ظلّ يتساءل عن سبب اختياره رغم كونه غير مؤهل لأيّة مسؤولية، ثمّ سرح في تفكيره بعيداً مقرراً عزمه على تقديم استقالته وتنازله عن كل الامتيازات ليظل بعيداً عن نوايا سيئة لأشخاص قد يسعون للتقرّب منه بسبب منصبه.. “توتّرتُ جداً ولم أعرف كيفية تعييني مديراً لتلك المؤسسة الحكومية وبيني وبين تلك الوظيفة أميالٌ من التعاسة والحزن الوظيفي….. وغالباً سأستقيل من هذه الوظيفة بغض النظر عن امتيازاتها….”..
إنّه “علي صلاح” الي يشبهننا ونماثله في كثيرٍ من المشاعر والمواقف.. كم مرّةً غرقنا مثله في أفكار تشاؤمية وأصابنا انقباض من احتمالات نرسمها في أذهاننا ونهايات تعيسة لن تتحقق في أغلبها..!! كم مرّةً تناسينا فرحاً انتظرناه كثيراً، ثمّ عند حصوله التفتنا إلى همومٍ بعضها فعليّ وبعضها مبتكرٌ من وحي السعادة..!!!
وأما عن موقفه من الزواج بعد عقد قران صديقه فحدّث ولا حرج..، لم يرَ في المسألة أيّ جانبٍ يدعو للبهجة وبالتالي لم يلجأ (كما يفترض به) إلى التهاني والتبريكات بغضّ النظر عن سوء أو حسن اختيار الصديق.. وإنمّا برزت وجهة نظره التشاؤمية والتي تطغى على حياته عندما قرر أن الزواج هو فعلٌ لقهر المرأة وافتعال إسعادها… “كان الأمر في النهاية بحسب رأيي أداة من أدوات قهر المرأة، أداةً لقرصها في خدّها، وإدخال السعادة الحزينة إلى قلبها”.. إنه نفس الزواج الذي يحتفي به معظم الناس ويرون فيه سبباً للسعادة، يتحوّل مع “علي صلاح” إلى حدثٍ مأساويٍّ بل كارثيّ..
هي نماذج لمشاعر حزنٍ مبتكَرة، ومآسٍ مبتدَعة تحفل بها الرواية وتفيض فيها سلوكيات بطلها “علي صلاح” والذي يعتبر صورة طبق الصل عن معظمنا في تشاؤمه وبؤسه وحزنه الذ ي لا يتوقف حتى في أكثر المواقف حبوراً…
“علي صلاح”.. أراه نموذجاً للمواطن العربي الغارق في عذابات لا تنتهي ومآسٍ تتراوح بين فقرٍ وعَوَزٍ وحسرةٍ على الماضي وخوفٍ من المستقبل.زز وكيف لا يكون كذلك..؟! كيف لا يستدعي أحزانه ويرى في الأبيض اسوداداً وكل ما يحيط به يدعو للتقزز والسخط والإحباط..؟!
واقعنا الرديء يتجلّى واضحاً في صفحات الرواية وحتى بين سطورها..بدءاً من مؤسسات العمل حيث يسود الروتين القاتل وتطغى فيها البيروقراطية الهادمة لكل الحوافز والنجاحات “وقفت أمام مديري ثابتاً أنتظر أن ينهي التدقيق في أوراق أعرف أنها سطحية وروتينية… كانت عادة الانشغال بالأوراق والاجتماعات اليومية هوساً إدارياً متّبعاً في كل إدارات الحكومة التي قد لا تكون تنتج شيئاً ذا قيمة..” مروراً بالمؤسسات الأمنية الي باتت مدعاةً للجزع بدلاً من أن تكون مصدراً للسطينة والأمن والأمان.. “الشاويش الشطّة كان يعرف أنني لست والده ومع ذلك جرّني إلى تحقيقٍ مهلهل مؤكّد كي يكتب تقريراً ما وتلك عاد الشرطة والأجهزة الأمنية..”وصولاً إلى البؤس المستفحل في الشوارع والبنى التحتية ومشاريع التنمية المؤجلّة إلى وقتٍ غير معلوم… “هي مشاريع لم تكتمل، وفي الحقيقة هي مشاريع من الوهم المكتمل لأن لا قرية تتطور ولا طريق ترابي وعر يبدو مستعداً لأن يتحوّل إلى طريق مسفلت وسلس والخدمات العامة مثل الكهرباء ومياه الشرب والتعليم وعلاج الأمراض كلها أمنيات تحلق في سماوات تلك القرى ولا تهبط في أيّ حالٍ من الأحوال..
إنها النظرة الواقعية إلى الحكومات المتعاقبة والتي لا تأتي بجديدٍ، سوى في مجال البؤس والشقاء.. “كل حكومة تأتي تتشدّق بأعذارها وفوضاها ولصوصها وتمضي.. يأتي الديمقراطيون ليصفق لهم الناس سنوات ويتغزّلون بفوضاهم، ويأتي الانقلابيون لسبب واحد وهو أن يمسكوا برأس الوطن ويمزّقوه في التراب..”.. وهو الخوف النابع من عذابات عانى منها ومازال الكثيرون عند محاولاتهم للتغيير أو حتى من دون أيّ محاولة فقط حى يكونوا عبرةً لسواهم ودرساً قاساً لكل من تسوّل له نفسه بأيّ رفضٍ ولو كلاميّ. هي عذابات نابعة من الدور الكبير المكانة العظيمة الممنوحة للسجون واعتبارها الوسيلة الفُضلى للنيل من محاولات التمرّد أو حتى مجرّد التفكير فيها.. “كنت أتأمّل ضحايا التعذيب وكلهم يبدون بلا ذاكرات… كانت السجون وما تزال في العهود الوسخة مقابر للذاكرات والمشاعر والذي يخرج منها يحتاج غالباً لتأهيل لن يمنحه إياه أحد.ز”.. “إن التعذيب لا يحتاج إلى تهمة، إنه رسالة كئيبة ينبغي أن يتسلمها بعض الناس ودرسٌ قويّ في الحزن يتم تلقيحهم به، إنه طبع الديكتاتورية، طبع السجانين مثل الرقيب أول حمّاد الذي يستطيع أن ينخر بسيخ من الحديد مستقيم رجلٍ طيّبٍ ومسالم..”..
في ظلّ هذا الواقع، ليس علينا أن نستهجن ردود فعل “علي صلاح” المحبطة، أو ننعته بالتشاؤم. إنّ شعوره البائس وحزنه المتكدّس بين ثنيات قلبه يتراءى طبيعياً بل متناسقاً مع شقاءٍ يحيط به من كل جانبٍ، بحيث تصبح السعادة حدثاً طارئاً قد يستدعي ألف سؤال وحذرٍ وقلق.
هذه هي حالنا، وهكذا يتجلّى واقعنا المليء بالكثير من المآسي.. لذلك، ونحن نخوض معركة الآلام والمخاوف، صرنا نُبدع في رسم الأحزان، ونحظى بمَلَكة استنباطها من بين عشرات المباهج، بل ونعمل على الانغماس فيها لأنها باتت “الاعتياديّ” بينما صارت السعادة “حدثاً طارئاً” مثيراً لمئات المخاوف والتكهنات.. واستحَلنا بمرور الزمن حرّاساً أوفياء لأحزاننا التي لا تنضب.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق