نيتشه والمراة ،

MOSTAFA CHAAB26 مايو 2022764 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
نيتشه والمراة ،

اخبار الشعب/سناء مسوس:

غرف نيتشه عبر تاريخ الفلسفة بالفيلسوف الكاره للنساء , وقد كانت كتاباته في عدة مواضع تعكس بشكل جلّي هذا الرأي الذّي تبنّاه معظم دارسي الفلسفة حول علاقة نيتشه بالمرأة .غير أن موقف نيتشه من المرأة لم يكُن حاسما ولا قطعيا كما تبدّى ربما لأنصار الرؤية الميزوجينية . إنّ الباحث في فلسفة نيتشه لايُمكنه إلاّ وأن يصطدم بالتضارب الشديد الذي يسم العديد من أفكاره بما فيها موضوع المرأة , وقد يكون مردّ ذلك للطابع اللّانسقي الذي ميّز المتن النيتشوي , وهو سمة مميّزة لفكر فيلسوف المطرقة الثائر على قيم مجتمعه والمنفلت من الإكراهات التي يفرضها كل نسق فلسفي صارم .
هل كان نيتشه فعلا كارها للنساء ؟ أم أنّ موقفه الذّي قد يبدو ظاهريا معبّرا عن كره واحتقار للمرأة لايعدو كونه انعكاسا لرؤية كوّنها نيتشه عن نساء عصره ؟ هل انتقد نيتشه -أو ربما كره – المرأة في ذاتها ؟, أم أن سهام نقده كانت موجّهة للصورة التي شكّلتها نساء عصره عن ذواتهن وهي صورة تعكس تمثلاّت مجتمع ذكوري يكبح جماح الروح الأنثوية ويعيق تجلّيها في العالم ؟ سؤال المرأة في المتن النشوي قد يعتبره البعض سؤالا عابرا يحمل معه جوابا بديهيا من فيلسوف تشكّل وعيه بالمرأة ضمن تاريخ فلسفي طويل كُتِب بحبر ذكوري , غير أنّ نيتشه يفاجئنا في مواضع أخرى عندما يربط المرأة بسؤال الحقيقة وهو سؤال لطالما كان مُحتكرا من الرجال .

نساء في حياة نيتشه
لا تخلو حياة نيتشه الشخصية من حضور نساء شكّلن وعيه وتصوّره للمرأة , ومما لاشك فيه أنّ لصورة الأم في وعي الإنسان من الدلالات ما قد يبدو كافيا لفكّ لغز العلاقة بالمرأة , غير أنّ علاقة نيتشه بأمّه يشوبها الكثير من الغموض بل إنّها تضع القارىء في تضارب شديد , فمن جهة يقول نيتشه في سيرته الذاتية –هذا هو الإنسان- : ” إنّ سعادة وجودي وما يحدّد طابعه المتفرّد مرتبطة بقدَر هذا الوجود : إنّني , ولكي أعبّر بطريقة الألغاز , ميّت في هيأة أبي , حيّ في هيأة أمّي , وسأعيش طويلا وأعرف الشيخوخة “[1]
يربط نيتشه سعادته وتفرّده بقَدره الذي جعله ميّتا في هيأة والده وحيّا ويعيش في هيأة أمّه , وقد ذهب بعض الباحثين إلى تفسير عبارة نيتشه على أنّها تعبير عن حالة السقم التي أصابت نيتشه وهو في سن السادسة والثلاتين وهي نفس السن التي مات فيها والده .من جهة أخرى اعتبر نيتشه نفسه يحييا ويعيش في هيأة أمه وهي عبارة تُحدّد علاقة نيتشه بالأم , ولما كانت أمه ألمانية خالصة فمن المحتمل أن نيتشه يُماثل بين الأم واللغة , إذ أنّ اللغة الألمانية شكّلت شخصيته ومنحته رصيدا لغويا وهو الفيلولوجي العاشق للّغة والكلمات , بهذا المعنى فالأم منحته اللغة التي يعيش بها ويحييا وينمو ويُفجّر من خلالها طاقاته الإبداعية .

مقولة نيتشه قد تفتح لنا بابا آخر للتأويل يعكس رؤية وتفسيرا مناقضا للتفسير السالف الذكر, فمن المعروف أن نيتشه يزدري الثقافة الألمانية معتبرا أنّها لم تُنتج إلاّ الرداءة , وحيث أنّ الأبوة تعبير عن الثقافة, والأمومة رمز للطبيعة , فإنّ نيتشه بهذا المعنى يجد نفسه ميّتا داخل ثقافة ألمانية جامدة  برأيه , لكنّه يحييا وينمو من خلال اتصاله الفطري والغريزي بالطبيعة الأم .

كما رأينا فالأم عند نيتشه قد ترمز للّغة  باعتبارها عشق نيتشه الأكبر , اللّغة التي سكنها وسكنته, فكانت له أُمّا تحتويه وتأويه ومن رحمها تفجّرت ينابيع الحياة والإبداع . كما أنّها قد تماثل الطبيعة -الأم- الحُبلى بالأسرار والغموض والتي حطّمت أوهام السيطرة لدى الإنسان الحديث .

في موضع آخر من –هذا هو الإنسان- يفجّر نيتشه كلماته اللّاذعة عند حديثه عن أمّه وأخته,  واصفا إيّاهما بخسّة الطبع وسفالة الغرائز التي لاحدود لها , مستنكرا كل قرابة تربطه بهما وهو الذّي يُقّر بأنّ من علامات الفظاعة الإعتقاد بالقرابات العائلية , ذلك أنّ الإنسان النبيل ذو الطبع السامي له بالضرورة أصول ضاربة في عمق الزمان . موقف نيتشه هذا من أمّه وأخته يثير الحيرة خصوصا وأنّ نيتشه نشأ بل وتفتّح وعيه على الحياة في بيئة أنثوية صرفة . يبدو أن نيتشه كان يحسّ بنفور بل ومن احتقار للأم والأخت , إذ وصفهما بالآلة الجحيمية التّي ملأت حياته فظاعة, حتّى أنّ اعتراضه الوحيد على فكرته الجوهرية عن العود الأبدي , شمل حصرا أمّه وأخته .فما الّذي جعل نيتشه يشعر بهذا التنافر الحاد اتجاه أهمّ عنصريين أنثويين في حياته المبكرة ؟ قد تكون رهافة نيتشه وحساسيته المُفرطة المصحوبة برجاحة العقل والذهن المتقّد , عوامل ساهمت بشكل أساسي في تشكّل هذه المشاعر السلبية لديه , إذ يبدو أنّ نيتشه كانت طبيعته مختلفة عنهما , فعندما يصفهما بالآلة الجحيمية فهذا قد يُشير إلى أنّهما كانتا تمتلكان طبعا قاسيا يخلو من أيّة رؤية شاعرية للحياة ,حكم نيتشه هذا قد يبدو قاسيا ومبالغ فيه , لكن وقائع الحياة ستثبت فيما بعد صواب رؤيته ولو جزئيا , فقد استغلّت أخته إليزابيت مرضه وموته فيما بعد , لتجعل نيتشه مفكّرا نازيا , وليتحوّل الجهاز المفاهيمي النيتشوي عنوانا لإديولوجيا نازية عنصرية . على مايبدو فإنّ إليزابيت خلقت لنيتشه صورة تُشبهها , صورة تعكس عقيدتها السياسية التّي تسبّبت في إزهاق الكثير من الأرواح بما فيهم روح نيتشه الشاعرية والمُرهفة , لقد كانت بالفعل آلة جحيمية .

كانت –لوسالومي- إحدى أهم النساء المؤثرات في حياة نيتشه , فقد عشقها وتمنّى الزواج منها , لكن طلبه كان يُقابل بالرفض في كل مرّةرفض –لو- الزواج من نيتشه لم يكن لأسباب متعلّقة بشخصية نيتشه , بل كان رفضا نابعا من شخصية لوسالومي المتفرّدة والمؤمنة حدّ التطرّف بحرّيتها , لم يكن من السهل على مثقفي عصر نيتشه إغراء إمرأة كسالومي , إمرأة عانقت فكر كانط وسبينوزا منذ أن تفتّق وعيها على الحياة , امرأة ذات تركيبة فريدة من نوعها , جمعت بين حب الشعر والفلسفة والتصوّف والنزوع نحو الإبحارفي عمق النفس الإنسانية, كانت –لو- تجلّيا للمرأة الكاملة في نظر نيتشه , غير أنّ رفضها له ولّد بداخله شعورا بالإحباط الشديد , حتّى أنّ بعض الباحثين ذهبوا إلى أنّ كتابات نيتشه عن المرأة كانت ستأخذ منحى آخر في حال لوتكلّلت علاقته بلوسالومي بالزواج أو الحب المتبادل .

نالت كوزيما زوجة فاغنر أيضا نصيبا من إعجاب نيتشه , فقد اعتبرها من الطبائع الأكثر نبلا وسمّوا على الإطلاق وقد كانت من النساء المؤثرات في شبابه المبكّر بل إنّ حضورها ظلّ راسخا في وجدان نيتشه حتى آخر حياته , كان نيتشه يعتبرها المرأة الأقرب إلى قلبه , وقد وجّه إليها في لحظاته الأخيرة ,قبل أن تعتريه موجة الجنون, رسالة موقعة بإسم ديونيسيوس قائلا لها : ” أحبّك يا أريان” . هل أحبّ نيتشه كوزيما فاغنر حبّا صامتا ؟

المرأة في فلسفة نيتشه

المرأة والحقيقة

يوجّه نيتشه في مقدّمة كتاب – ماوراء الخير والشر – ضربة قوّية لتاريخ الفلسفة الغربية , وذلك بافتراضه أن الحقيقة إمرأة , يقول نيتشه : ” هب أنّ الحقيقة امرأة “[2] , افتراض نيتشه هذا قد يحمل بين ثناياه ثورة ضد تاريخ فلسفي طويل اُحتكِرت فيه الحقيقة من طرف الرجل , فالحقيقة في الواقع كانت شأنا ذكوريا محضا , فمنذ بدايات الفلسفة مع الإغريق لم يكّن للنساء حضور في المشهد الفلسفي, حتّى أنّ المعلّم الأول أرسطو جعل منزلة المرأة من منزلة الحيوان , أمّا في العصر الوسيط فقد اُحتكرت الحقيقة باسم الإله المسيحي , وقد امتدّت السلطة الذكورية على موضوع الحقيقة إلى العصر الحديث الذّي ظلّ فيه حضور المرأة الفكري باهتا بل هامشيا .يُشكّل افتراض نيتشه أن الحقيقة امرأة زعزعة للدوغمائية الحداثية التي حصرت الحقيقة في نمط من المعرفة العقلانية والموضوعية , فالمرأة بما هي لغز محيّر يصعب الإمساك به تُماثل الحقيقة التي يتوّهم الفلاسفة القطعيّون امتلاكها , غير أنّها تنفلت منهم عند كلّ محاولة لإلتقاطها , هكذا هي المرأة تُحاكي الحقيقة وتنفر منها في آن واحد وما نفورها إلاّ تعبير عن قناعة كامنة في الرّوح الأنثوية , قناعة بلا جدوى البحث عن الحقيقة , وقد ذهب نيتشه إلى أنّ سبب فشل الفلاسفة في الوصول إلى قلب المرأة يكمن في تلك الدوغمائية  التّي تُغلّف تفكيرهم وهم يتوجّهون صوبها , بنفس المعنى فإنّ كل صرامة في الوصول للمعرفة أو الحقيقة لا تحصد سوى نتائج عقيمة. يقول نيتشه :

” لو افترضنا أنّ الحقيقة امرأة فما الذي يترتب على ذلك ؟ ليست هناك أسباب قوية تدعونا للإشتباه بأن جميع الفلاسفة كانوا معدومي الخبرة مع النساء , وذلك بالقدر الذي كانوا به قطعيين , وأن الجدية الرهيبة والفضول الأخرق الذي حاول من خلالهما الفلاسفة الإقتراب من الحقيقة كانا وسيلتين عاجزتين وغير صالحتين على الإطلاق لكسب قلب امرأة. والمؤكد أنّها لم تسمح لأحد أن يكسب قلبها ، كما أن كل أنواع الدوغماطيقية قد أصبحت اليوم عقيمة وبلا روح , هذا إذا كان قد بقي لها وجود على الإطلاق , لأن هناك من يدعي أنّها قد سقطت وأن كل أنواع الدوغماطيقية كلّها تحتضر .” [3]

يمكن القول أنّ الإرهاصات الأولى للفكر ما بعد الحداثي بدأت مع نيتشه و ذلك من خلال  تحطيمه لمفهوم اليقين ومعه مفهوم الموضوعية، كما أنّ المماثلة التي أقامها بين المرأة والحقيقة تُعدّ بحق ثورة في وجه تاريخ  ذكوري احتكر العلم والفلسفة والدّين، ينطوي افتراض نيتشه بأن الحقيقة امرأة عن سخرية من أوهام الفلاسفة بامتلاك موضوع الحقيقة , فالحقيقة في النهاية حسب نيتشه هي امرأة لعوب من يجرؤ على هتك سرّها حلت عليه لعنتها.

” لاتذهب للمرأة إلاّ وسوطك معك “[4] هكذا يدعو نيتشه كلّ متوجّه صوب المرأة- الحقيقة ، ذلك أنّ كل محاولة لسبر أعماقها ستُقابل بمراوغات لا نهاية لها . في الواقع إنّ عبارة نيتشه تحمل بين ثناياها شيئا من السخرية من كل محاولات الفلاسفة لفكّ لغز الحقيقة وما دعوته إلى التوجّه صوبها بالسوط إلاّ انعكاس لتلك الرغبة المحمومة لدى الفيلسوف في ترويض الحقيقة بُغية امتلاكها ،لقد أراد نيتشه نقد الأسس المعرفية لحركة التنوير وعلى رأسها الرغبة في السيطرة على الطبيعة، ولما كان إيقاع جسد المرأة يسير على إيقاع الطبيعة فإنّ المرأة تماثل الطبيعة والرغبة في السيطرة عليها وامتلاك أسرارها تعكس رغبة الإنسان الحديث في الهيمنة على الطبيعة بهدف استغلالها لصالحه .موقف نيتشه هذا لا ينطوي على إزدراء مزدوج للحقيقة والمرأة , فقد صرّح نيتشه في مؤلفه ” العلم المرح” بأنّ الفلسفة بالنسبة له لاتستهدف بلوغ الحقيقة أو تحصيل معرفة موضوعية بقدر ما تطمح إلى تحقيق العافية أو الصحة . نيتشه لايزدري الحقيقة – المرأة وإنّما يجعل كل محاولة لسبر غورهما عديمة الجدوى.

المرأة الكاملة

يُفاجئنا نيتشه في ” إنساني مفرط في إنسانيته ” بشذرة يقرّ فيها بكل وضوح بأنّ المرأة الكاملة نوع إنساني أرقى من الرجل الكامل. يقول نيتشه :

” المرأة الكاملة نوع إنساني أرقى من الرجل الكامل , وأكثر ندرة أيضا .والتاريخ الطبيعي للحيوانات يمنحنا أداة تجعل هذه المقولة قابلة للإثبات” [5]

لقد اتّخذت فكرة الإنسان الأعلى صبغة ذكورية في أذهان أغلب قارئيي نيتشه , لكن فيلسوف المطرقة يُفاقم دهشتنا هنا باعتبار المرأة الكاملة أكثر رقيا وسموا من الرجل الكامل ولو على ندرتها ,اعتراف نيتشه هذا يقلب كل التصوّرات التي حسمت موقف الفيلسوف من المرأة في صورة  كاره النساء , فهاهو نيتشه يُعلي من مقام الأنثى بل يجعلها تجلّيا نادر التحقّق لإنسانه الأعلى. أوليس هذا إنباء جلّيّا بأنّ فكرة الإنسان الأعلى لا يمكنها التحقّق بدون إمرأة كاملة تهب الحياة لأبناء أصحّاء وأقوياء ؟ نعود هنا للتساؤل مجددا حول آراء نيتشه السلبية في المرأة , هل هي انعكاس لواقع اجتماعي وثقافي أثّر على مكانة المرأة وسلوكها وفلسفتها في الحياة ؟ أم أنّ تلك الرؤية السلبية لها جذور نفسية ونابعة من إرث أمومي متأصّل في كل نفس إنسانية ؟ يصطدم كل قارىء لنيتشه بالتداخل بين سيرته الشخصية وفلسفته الخاصة , وقد يكون هذا الإلتباس سببا في بروز موقفين متضاربين من المرأة أو هذا ما يظهر على الأقل , موقف يرتقي بالمرأة إلى مدارج الكمال والسمّو , وموقف يحصر المرأة في وظيفتها البيولوجية أو في أنّها كائن يبالغ في الضعف , لقد عبر نيتشه عن هذا الإرث الأمومي الذي يُحدّد علاقة الإنسان بالمرأة في هذه الشذرة من ” إنساني مفرط في إنسانيته” :

” يحمل كل إنسان صورة أنثوية في داخله آتيه من جهة الأم , وتلك الصورة هي التي تحدّد ما يكنه للمرأة من إكبار أو احتقار , أو من عدم اكتراث بها جملة .” [6]

هل بإمكاننا القول أن علاقة نيتشه المضطربة بأمّه كانت سببا في موقفه السلبي من المرأة في مواضع عديدة من كتاباته ؟ غير أنّ نيتشه الفيلسوف ذو الطبع السامي يجزم بأنّ له أصولا في ماض بعيد لامتناه , أصول ذات جينات ديونيزيوسية تحتفي بالجسد حاملة معها دفقا أنثويا آت من ماض

سحيق .لقد أعاد نيتشه للجسد حضوره بأن هوى بمطرقته على كل الفلسفات المثالية والأفكار الدينية التي حطّت من قيمة الجسد ومعه كل الغرائر والدوافع الطبيعية التّي تمثّل قوة الحياة , يعتقد نيتشه أنّ القيم المتعالية والمفارقة التي سيطرت على تاريخ الفكر لسنين خلت، لم تمثّل سوى قيم انحطاط وكبح للحياة المتدفّقة من أديم الأرض , لقد مثّلت الأرض في فكر نيتشه قوة الحياة المتحقّقة في ذاتها في المقابل تمثل السماء, بما تحيل عليه من قيم مفارقة ومتعالية, رمزا للقوى المتفاعلة التي لاتستثب إلاّ من خلال إنكار العالم الحقيقي.الأرض حُبلى بإمكانات الحياة , فهي الواهبة لكل أسباب البقاء، إنّها صنو للمرأة فهي تحبل بالبذور ومن رحمها تنبعث الحياة بكل أشكالها , الأرض حاملة للقيم الأنثوية التي لا تسعى لإثبات ذاتها عبر نفى قيم أخرى , لذلك فالمرأة الكاملة هي كل امرأة قادرة على التّماهي مع طبيعتها المُماثلة للأرض، طبيعتها الواهبة بدون شروط , حتّى أنّ نيتشه وصف حب المرأة بالإيمان وهو إيمانها الوحيد، ولعلّ هذا ما يُفسّر موقف نيتشه الرافض للحركات النسوية التي تسعى لفرض مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة . يقول نيتشه :  ” إنّ رجلا يحب مثل امرأة يغدو بذلك عبدا , لكن امرأة تحب مثل امرأة تغدو بذلك امرأة كاملة “[7]

المرأة الكاملة هي أيضا حياة ، هكذا يصفها نيتشه في ” هكذا تكلم زرداشت ” :

” لقد حدّقت في عينيك ،أيتها الحياة ، فحسبتني هويتُ إلى غور بعيد القرار ، غير أنّك سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لاقرار له، وأجبتني :ها ماتقوله الأسماك جميعها ، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها ، وهل أنا إلاّ المتقلبة النفور ؟ وهل أنا إلاّ امرأة ، وامرأة لا فضيلة لها ، لقد تقوّل الناس كثيرا عن صفاتي ، ولكنهم أجمعوا أنّني غير المتناهية ، المليئة بالأسرار.”[8]

المرأة هي الحياة اللّامتناهية ، هي غور بعيد القرار ،أو هكذا تتبدّى لكل باحث عن الحقيقة الموضوعية أو الفضيلة . المرأة سر الوجود الذي يقف أمامه الإنسان عاجزا عن سبر أغواره .المرأة هي الحياة المشتاقة لذاتها لذلك فهي تنفر من كل الفضائل والأخلاق التي ابتدعها البشر لكبح انبثاق طاقة الحياة ، المرأة هي الحقيقة التي لاشكل لها لذلك فهي تجافي كل متوهّم بإمتلاك الحقيقة وهي أيضا الطبيعة التي تُشعرنا بالمهانة لأنّها تسلبنا بكل شراسة وعدوانية كل ما نملك من أوهام السيطرة
والقبض على ماهية الأشياء ، كما أنّها تُذكّرنا بأنّنا كائنات منبثقة عن المملكة الحيوانية وهي حقيقة تُزعزع عرش الفلسفات الأخلاقية المثالية المُغرقة في التعالي .

” عندما نحبّ امرأة سرعان ماينتابنا الحقد على الطبيعة وعلى كل الظاهرات الطبيعية الكريهة التي تخضع لها كل امرأة ، نفعل مابوسعنا لطردها عن ذهننا ، لكن لمجرد أن تلامس روحُنا تلك الأشياء ، تتخلّلها رعدة ، وتنظر بعين الإشمئزاز إلى الطبيعة :- نحس بالإستياء ، ويبدو لنا أن الطبيعة تمد يدا نجسة تنتهك حرمة ممتلكنا .”[9]

جاك دريدا قارئا لفلسفة نيتشه النسوية

على غرار فلاسفة ما بعد الحداثة انكبّ اهتمام دريدا على اللّامفكر فيه في سياق الثقافة الغربية ، وقد احتلت القضية النسوية حيّزا بارزا في فكر دريدا ، ذلك أنّ موضوع المرأة شغل ولآلاف السنين موقع الغياب في ظل مركزية اللوغوس التي خلقت حضورا ثابتا للحقيقة . اعتمد دريدا على تصوّرات نيتشه للمرأة وبالأخص مماثلته للحقيقة والمرأة  ليُعطي تفسيرا لفلسفة رجل عٌرف عنه عداءه للمرأة .

يوضّح دريدا بأن لكل من الحقيقة والمرأة نفس التاريخ المشترك وهو تاريخ أخطاء وعثرات ، ولما كانت الفكرة هي شكل تقديم الحقيقة فإنّ الحقيقة بهذا المعنى ليست دائما امرأة والمرأة أيضا ليست دائما الحقيقة . في البدء كانت الفكرة أفلاطونية هكذا يقول دريدا :
” قبل هذا التقدم في تاريخ العالم الحقيقي ،كانت الفكرة أفلاطونية ، وكانت الكتابة ، التورية ، أوالإسهاب في تفسير العيارة الأفلاطونية المتّصلة بالحقيقة ، في هذه الللحظة التدشينية للفكرة عبارة عن :أنا أفلاطون ، أنا الحقيقة “[10]

في هذه المرحلة اتّسمت الحقيقة بالقطعية والتمركز حول القضيب , لم يبرز بعد حضور المرأة فقد كانت المرأة في هذه الحقبة من تاريخ الحقيقة مخصيّة , أي مسلوبة الحضور الأنثوي وبذلك فقد تقمّصت دور الرجل وتنكّرت بشكل لاشعوري لأنوثتها .هذا النمودج للمرأة المخصية يعكس تصوّر الفيلسوف الدوغمائي للحقيقة , هذا التصوّر الذي آمنت به المرأة فعاشت بذات مزيّفة . يصف دريدا المرأة في هذا الطور بأنّها مهانة ومدانة وترمز إلى قوة الكذب , لقد مثّلت المرأة هنا اللّاحقيقة  .

في مرحلة لاحقة يبرز حضور المرأة وهي مرحلة إخراج الحقيقة ، هنا تتحوّل المرأة من امرأة مخصيّة إلى امرأة تُخصي الرجل وذلك من خلال تلاعبها بالحقيقة ، هنا تستغل المرأة وضعيتها السابقة ككائن متّسم بالضعف والبعد عن الحقيقة ، لتحقيق منافع تصبّ في مصلحتها .تتلاعب المرأة بالرجل من خلال ابتداع أشكال الضعف ، لقد أصبحت تتقن فنّ الإقتراب والإبتعاد من الحقيقة محطّمة بذلك ميتافيزيقا الحقيقة .يرى دريدا أنّ هذه المرحلة تمثل بداية التاريخ وابتعاد المسافة بين المرأة –الحقيقة/ الفيلسوف ،لم يعد الفيلسوف يُمثّل الحقيقة بل يقتفي فقط أثرها .يصف دريدا المرأة في هذا الطور بأنّها مدانة ، محتقرة ترمز إلى اللّاحقيقة أو لاحقيقة الحقيقة .

المرأة التي تؤكد ذاتها دون الحاجة إلى الحقيقة هي النوع الثالت من النساء ، وهي المرأة الحاملة للقوّة الديونيزية وهي قوة هدم وخلق مستمرين ، إنّها الرغبة في الصيرورة وفي خلق شروط حياة جديدة ، هذه المرأة هي الأنثى الكاملة الأبدية الحاملة لبذرة المستقبل في رحمها ، غير مكترثة بالحقيقة فهي تؤكّد إرادتها عبر فعل الخلق والإبداع وذلك من خلال تهشيم كل الأشكال وإعادة بنائها لأنّ القوّة تفيض منها وبها وهي بذلك في حالة حمل مستمّر , حمل للمستقبل بكل مايعد به من قوّة وتجديد وحياة
من رحم هذه المرأة يولد الإنسان الأعلى المُتجاوز لميتافيزيقا الحقيقة .

خاتمة

في ضوء ماسبق ، وعلى سبيل الختم ، يمكن القول أنّ نيتشه لم يكن عدوّا للمرأة في ذاتها ،إنّما كان عداءه منصبّا نحو وهم امتلاك الحقيقة وقد أراد نيتشه من خلال توظيفه للمماثلة بين المرأة والحقيقة أولا، زحزحة مرتكزات الميتافيزيقا الدوغمائية التي احتكر فيها الرجل الفيلسوف سلطة الحقيقة ، ومن جهة أخرى فقد جعل نيتشه من المرأة قوّة تقويض لهذه الميتافيزيقا المتمركزة حول الحقيقة والقضيب . لكن من هي المرأة التي تقضّ مضجع الميتافيزيقا ؟ إنّها ليست المرأة المخصية ولا المرأة التي تُخصي الرجال فهذان النموذجان يمثلان المرأة التي يكّن لها نيتشه مشاعر العداء لأنّها تدور في فلك الحقيقة ،وحدها المرأة المنفلتة من عقال الحقيقة بل والكارهة لكل دوغمائية ميتافيزيقية ،من تحضى بتقدير واحترام نيتشه ، لأنّها تسعى بشكل دؤوب للعيش في رحاب وجودها الإنساني الأصيل خارج أوهام الحقيقة، إنّها الأمّ الكونية الواهبة للحياة ، الحُبلى بشكل أبدي لأنّها تحمل في جوفها إمكانات المُستقبل المتجدّدة باستمرار.

يمكن القول أنّ رؤية نيتشه للقضية النسوية شكّلت ثورة على نمط التصوّرات السائدة في عصره .فأن يربط فيلسوف المرأة بالحقيقة ، في عصر – القرن التاسع عشر – كانت فيه المرأة مُغيّبة عن مجال التفكير العقلاني، لهو بحق ثورة على كل المفاهيم السائدة آنذاك والتي أقصت المرأة من كل ماهو عقلاني لأنّها كائن اتّسم بالضعف والتحايل والإنفعالات السلبية، لم يكن نيتشه أيضا من أنصار الحركات النسوية التي بدأت تنشط في عصره اعتقادا منه أنّ مطالبة المرأة بالمساواة مع الرجل تجعلها أسيرة خطاب ميتافيزيقي يتأسّس على- الحقيقة – التي يمقتها نيتشه . لقد نظر نيتشه لأزمة المرأة كامتداد لأزمة الحداثة وبذلك يمكن القول أنّ فيلسوف المطرقة أسّس لفكر ما بعد الحداثة وأيضا طرح سؤال في غاية الأهمّية وهو ماذا بعد النسوية ؟

الهوامش

[1] نيتشه،هذا هو الإنسان،لم أنا على هذا القدر من الحكمة،ترجمة علي مصباح،منشورات الجمل ،ص15

[2] نيتشه،ماوراء الخير والشّر،ترجمة جيزيلا فالور حجّار، مقدمة الطبعة الأولى ،ص17

[3] المصدر نفسه.

[4] نيتشه،هكذا تكلم زرداشت

[5] نيتشه،إنساني مفرط في انسانيته،الكتاب الأول، ترجمة علي مصباح ، منشورات الجمل الطبعة الأولى ، الشذرة377 ،ص285.

[6] نفس المصدر،الشذرة 380 ،ص286

[7] نيتشه،العلم المرح،ترجمة علي مصباح،منشورات الجمل ،الطبعة الأولى،الشذرة 363، ص311

[8] نيتشه، هكذا تكلم زرداشت،ترجمة فيليكس فارس ،ص136

[9] العلم المرح ،الشذرة 59،ص 99

[10] دريدا،المهماز،أساليب نيتشه،ترجمة عزيز توما،دار الحوار للنشر والتوزيع،الطبعة الأولى 2010،ص 127

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق