في انتظار الأسماء الحمراء

MOSTAFA CHAAB6 أبريل 2022217 عدد المشاهدات مشاهدةآخر تحديث :
في انتظار الأسماء الحمراء

 

اخبار الشعب /نزار مزهر:

أسماك حمراء لونت وجه القمر
قبل رحيلي هذا الربيع، كنتُ أظن- كما قالت لي جدتي- أنها تعصر الزيتون، وعندما كبرت اكتشفت- كما قالت لي ذاكرتي – سر تلك الأوراق المخبأة بين صرير حجر الرحى وصمت النهر البارد.
معصرة الزيتون، غدت- فيما بعد- أكثر جمالاً وحزناٌ، أصبحت حجارتها تعزف الموسيقا والزيت، حجرها الكبير الكبير الدائر، هو حب عتيق لعجوز.
حبً لم يتلاشَ أو يرحل مع رحيل الثلج المكدس فوق الجبال، حب وأغنية سمعها كل الأهالي- طوال فترة مواسم الزيتون- مع الرياح المطيرة، وندف الثلج المحمول بعواصف الشتاء من أعلى التلة- حبيبي مر من هنا-
في هذا الشتاء، وأول ليلة، خفت من ذاك البيت ذي السقف العالي، كان مزركشاً بصفوف كثيرة من جذوع الأشجار المتلاصقة.
أذكر أني لم أنم حتى الصباح، فقد تركني أهلي في هذا البيت مع جدي وجدتي، على أمل أن يعودوا ليأخذوني بعد أن يؤمن أبي مسكناً له ولأمي وإخوتي.
مؤلمة كانت حياة أبي، فالشرطي في هذا البلد، مثل طيور مهاجرة كل ربيع، محتوم عليه التنقل، وأن يعيش بتلك الأكذوبة، سلطته على كل البلاد.
هو أول هطول للثلوج هذا العام، وأنا عندهم، أتذكره جيداً، كان لا يزال دافئاً، حنوناً، يجتمع بين جدرانه، دفء دلالهم لي وتمردي.
حتى صار هذا الدلال حباً ونشوة تضخما في داخلي، أنا شعرت بأني ملك صغير، وهم وجدوا بي تسلية لأيامهم الخاوية صخباً، طوال فصل الشتاء الصامت.
متأففاً، صافح الفجر آخر خيوط الليل مودعاً عتمته وخوفي. رحت أركض عبر سهول وصخور تلك القرية، بدت حدودها صغيرة نوعاً ما، خلف منزلنا، ثمة نهر يحوي أسماكاً حمراء صغيرة، انتظرتها ملياً ولم تكبر.
بين الثلوج، رحت أبحث عن أي شيء ألعب به، بالمصادفة وجدت علبة سجائر فارغة، جمعت بعصاً من القش وحشوته فيها، بدأتُ أدخن محاولاً تقليد سعلة أبي، وكم تمنيت لو أرميها لأشتري غيرها من الحانوتِ الذي وظفته لبيع منتجاتي المعروضة، من علب قديمة صدئة، وأحذية مهملة، وقطع قماش رثة وبراغٍ، ولكن تباً لها، لم تفرغ.
أصبح القمر في الليلة التالية بدراً، تسلل عبر النافذة الكبيرة، حتى أنار جزءاً من وجه جدتي الجالسة أمامي، حكت لي همساً، حكاية العجوز ومعصرة الزيتون، كالعادة لم أستطع النوم، وانتظرته إلى مابعد منتصف الليل، فعندما يصير القمر مكتملاً، يصبح أكثر غروراً.
فجأة سقط على نافذتي، وحدثني عن أمي ، وهكذا ، كل ليلة أحادثه ويحادثني سراً، حتى يهدهد ليأسماك حمراء لونت وجه القمر
قبل رحيلي هذا الربيع، كنتُ أظن- كما قالت لي جدتي- أنها تعصر الزيتون، وعندما كبرت اكتشفت- كما قالت لي ذاكرتي – سر تلك الأوراق المخبأة بين صرير حجر الرحى وصمت النهر البارد.
معصرة الزيتون، غدت- فيما بعد- أكثر جمالاً وحزناٌ، أصب وسادتي وأنام.
كبار القرية قالو:
فقدت العجوز عقلها فجأة، وكل موسم شتاء، تذهب إلى طاحونة المعصرة، تجلس بالقرب من بابها، ويداها مغموستان في ماء النهر البارد، تنتظر رسالة يحملها الماء لها من وحيدها، الذي خطفته منها تلك الحرب اللعينة، اختفى بشكل غامض وكثرت الأقاويل حول مصيره، فمنهم من قال: مات في بلاد بعيدة، ومنهم من قال: طحنته الحرب بين براثتها ، لكنهم لم يجدوا جثته.
لدى جدي، دفتر صغير ونصف قلم رصاص، يحمله في جيب سترته، ممحاته المتآكلة، محت جزءاً من حدود الكون، وعجزت عن أغنية تلك العجوز – حبيبي مر من هنا – أن تزيلها من ذاكرتي.
هو، يشبه كثيراً تقويماً معلقاً على حائط، ودون أن يدري، كنت كل يوم – وطوال فترة الشتاء – أسرق من دفتره ورقة فارغة، حتى أصبح عندي كثير منها.
بعد فترة، أصبح جدي وجدتي، دائماً، يأخذان الصمت بفرح ويذهبان به بعيداً، لأبقى مغرداً في هذا الخلاء الواسع لحدود بيتهما الكبير، وحيداً مع فترات صمتهما الساجن لأوراقي البيضاء، أخذت ورقة وكتبت:
عجوز في البداية كنت أظنها مجنونة، بصمتها الجالس أمام باب معصرة الزيتون، فجأة اختفت جميع كلماتي، فقط كلمة واحدة بقيت تسطر الورقة(حبيبي)، فرميتها وسط الأسماك الحمراء في النهر ، تأخذها .
في الليل، عاد القمر كعادته ضاحكاً لي، أباح لي أن أكتب رسالتي الثانية.
أبي وعشرات علب السجائر الفارغة ترقص أمامي على إيقاع واحد في ضوء القمر، أيضاً، اختفت جميع كلماتي، فقط كلمة واحدة، علقت في وسط الورقة (حبيبتي).
في الصباح أسرعتُ إلى مكتب البريد، ورميتها لموظفيه ذوي السترات الحمراء، سبحوا معها في النهر ورحلوا.
بعدها، أنا والقمر خلسةً، في منتصف الليل، كتبتُ رسالتي الثالثة.
ذات يوم تشاجرتُ مع غيمة اصطدمت بي عند المروج وركلت بقدمي ماء النهر، فتطايرت الأسماك الصغيرة تسبح في الهواء، هناك فوق شجرة السرو رقص بعض منها على إيقاع حجر الرحى وقطرات الزيت، أيضاً، فاختفت كل السطور، إلا كلمة واحدة في عمق الورقة (حبيبتي).
بين الثلج الأبيض وأصابع يديَ الزرقاء، ثمة إناء قديم، فوق مدفأة الحطب، تكدست داخله حبيبات الثلج الناصع، البخار الأبيض وسيجارة أبي، تشكلا وسط الغرفة، مثل وجه أمي، أخذت ورقتي الرابعة وكتبت، أسماك صغيرة صبغت وجه القمر بلون أحمر، وتحول بخار الإناء إلى زيت، أيضاً لم يبقَ في عمق الورقة، إلا كلمة واحدة (حبيبتي).
تناقلت القرى المجاورة، همساً، حول اثنين من المجانين قدما من أراضٍ بعيدة، ومن خلف خطوط النار، كانوا يحكون لهما عن يد ممدودة فوق النهر ، لجثة مصبوغة بلون سمكات النهر الحمراء، بقيت تتحرك وتكتب أوراقاً بيضاء صغيرة، لم يصدقهما أحد، سوى سمكات النهر وأصابع يديه، ومنذ ذلك الحين، لم يعد يسمع أهالي القرية غناء معصرة الزيتون.
رسالتي الأخيرة، كتبت فيها: أربعةٌ واربعون شتاء في حياتي يغنون -حبيبي مر من هنا –
تلك العجوز، وقبل رحيل ذاك الربيع، لم أعد أخاف صمتهما، فقد أصبح صوتها البارد كخريف عمرها النائم فوق حجر الرحى، جمالاً في قلبي، اختلط مع تلك الموسيقا وهدير النهر و (سكسكة) الحجارة ونقاط الزيت، رحلتُ ولها في ذمتي ، اعتذار ومسامحة مع كل ورقة بيضاء رميتها في النهر.
البارحة، وأنا أفتش بين الصور، وجدتُ صور قديمة لأمي تحملني بين ذراعيها، وبقايا أوراق صفراء صغيرة كلها، كانت تحمل كلمة واحدة في وسطها حبيبتي.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اخبار عاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق